رحلة القمر

من

جعبة الذكريات

   القمر هذا الكوكب السارح في الفضاء الكونيّ اللّامتناهي، والذي يبدو لنا بأشكال وصور مختلفة، في منازله، هلالًا عند مولده تارةً، وبدرًا بهيًّا منيرًا يسحر الألباب عند كماله طورًا، شاحبًا عند خسوفه، تغنّى به الشعراء العرب، طبعًا وليس الفرنسيّون، وتغزّلوا به وهو يطلّ من وراء أفق الصحراء ويتّكىء فوق قمم صنين، وشبّه المحبّون والعشاق وجوه الحور العين، حبيباتهم الجميلة، بخارق جماله، وجعل منه بعض الأقدمين في عصورهم الجاهليّة إلهًا يسجدون له ويسبّحون عند شروقه، والعديد من الناس في بلادنا  بجبل لبنان وسواه، يتيمَّنون عند إطلالته الأولى وعندما يشاهدونه في يوم ولادته الأوّل، في الأفق الغربيّ مستأنسين به باشّين مردّدين آيات دينيّة كأنّه نبيّ أو وليّ يطلبون منه بركة وخيرًا وأن يهبهم أيّام سعد ومستقبلًا مشرقًا.

   هذا القمر الأسطوريّ المكرَّم عند أهل الغيب، حطَّ على سطحه بعض سكّان كوكبنا الأرضيّ، وقد أبصرهم ملايين وملايين من النواظر البشريّة في أقطار الدنيا كافّة، إلّا أنّ فئة من رجال الدين لم يصدّقوا صحّة هذا الحدث التاريخيّ وسفّهوه وأنكروه. زاعمين أنّ القمر رمز من رموز الألوهيَّة ، لا يستطيع ابن آدم الضعيف بلوغه وتدنيسه بقدميه! ولكنّ الحقيقة الساطعة أفحمتهم وأسكتتهم، إنّما من دون اقتناع بإمكانيّة ملامسة الإنسان له مدّعين أنّ ما صوّرته وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة ليست سوى تلفيق واختراع وبهتان...

في خيال الأدباء

   وسواءً آمن هؤلاء الدّينون الغيبيُّون بصحّة الهبوط على أديم القمر، المستقي بهاءه من أمّه الشمس، أم لم يؤمنوا، فإنّا نتركهم سادرين1 في اعتقادهم هذا، غير القائم على دعائم العلم الصحيح، لنؤوب إلى حكاية هذا الكائن الطبيعيّ المحيّر للعقول بتحرّكه الخاضع للجاذبيّة الكونيّة، ونرى قبل أن يبلغ ثراه ويلامس ترابه وصخوره نوتيّون2 فضائيّون أدميّون، ما كتب عنه بعض الأدباء الغربيّين، منهم "جُول فَارِنْ" و "جايمس ولّ".

   الأوّل"، "جول فارن" هو الأديب الروائيّ الفرنسيّ الذي ألّف منذ ما يربو على قرن (مات عام 1905) روايته المدعوّة "كولمبياد" محورها رحلة إلى القمر نسجها خياله الخصب، وأبطالها، كما تخيّلهم، أمريكيَّان من "أميركا الشماليّة" وأوروبيّ من "فرنسا"، وتصوّر طيّارات الغدّ وانطلاقاتها من على كوكبنا، والناس المتفرّجين والعاملين، واصفًا شكلها، كما رآه خياله كقبّة مستطيلة مستديرة وشبيهة بشمعة، محدّدًا أربعة أيّام لبلوغ هذا الكوكب المقترض  بهاءه من الشمس، ومكانًا فيه، يبعد نصف درجة تقريبًا عن خطوط العرض، عند "كاب كندي" الذي انطلقت منه "أبّولو 11" في النصف الثاني من القرن العشرين، وتصوَّر  "مخلوقات حيّة" على أديمه لم يكتشف لهم أثرًا فضائيّو أمريكا الشجعان؛ ولكن بالرّغم من هذا التصوّر الأخير الخاطىء، معظم ما وصفه بعقله الثاقب وخياله الخصب قد تحقّق. وكان تنبّؤه ببلوغ سطح هذا الكوكب المنير والمشتّت لحنادس3 الظلام ليلًا، باعثًا على التقدير والإكبار، حتّى أنّه نصب له تمثالٌ في المدينة التي ولد فيها "نانِطْ" "Nantes" الفرنسيّة وقد بات هذا المكان مزارًا كمزار القدّيسين والأولياء، يؤمّه أهل العلم والفكر وينحنون أمامه تبجيلًا وإكرامًا لما تنبّأ به ولما حقّقته رحلة "أبّولو 11" التي انطلقت من "كاب كندي" المكان الذي تنبأ به "فارِنْ".

الرحلة الفعليَّة:

   غزو الفضاء الأرضيّ ومباراة الطير فيه وتجاوزه إلى الفضاء الكونّي، العديم الهواء اللّازم للحياة لم يعد وهمًا وخيالًا كما تخيّل "فارن" أو كما تخيّل أجدادنا الأوّلون بساط الريح، بساط  "سليمان بن داوود" المعروف "بالحكيم"، ذلك البساط الذي كان كما تقول الأسطورة يتنقل من قارّة إلى قارّة، مجتازًا المسافات الشاسعة، بمجرّد ضغط على خاتم سحرّي عجيب في فضاء يغلّف الكرة البيضاويّة التي نحيا فوقها، بل تجاوز ما أنجزه البساط إلى فلك آخر ينأى ألوف الأميال المؤلّفة عن الأرض، هو القمر، المهمّ أنّ الإنسان، العجيب حقًا، حطّ على أديم البدر المنير، غير عابىء بخوف ولا متهيّب من نقد الغيبيّين!

عام الانطلاق والهبوط:

   كان ذلك يوم أحد في السادس عشر من شهر تموز العام 1969، وفي ذلك الأوان اتُفق لي أن وُجدت في مدينة "مراكيبو" عاصمة ولاية "سُوليا" الفنزولانيّة الواقعة في شمالي أمريكا الجنوبيّة، عندما انطلقت مركبة فضائيّة أمريكيّة أسموها "أبّولو 11" في جوفها ثلاثة رجال من أهل العلم والباس والمهارة، هدفها بلوغ القمر؛ وكنت مع آخرين من البشر، نشاهدها متلفزة من مركز مراقبة فضائيّة، وتبثّها أقمار صناعيّة في مختلف أنحاء البسيطة، وشاهدها، ساعة انطلاقها، حوالى أربعة آلاف صحافيّ في "كاب كندي" وملايين من بني آدم وبنات حوّا، تخلّوا عن أعمالهم وأهملوا نومهم ليشاهدوا إنجاز ذلك الحدث المدهش، الدافع إلى الفضول والمحيّر للعقول!

   نعم، في ليل 20 و 21 تموز حطّت المركبة العجيبة على سطح القمر! سهرت مع الساهرين حتّى الساعة الثانية من صباح 21 تموز، وعيوننا جميعًا شاخصة إلى الطيّارين الأمريكيّين: "ارمِسْترُونغْ" و "ألدْرِينْ" "Buzz Aldrin" وهما ينزلان، ببطء، ويحطّان على سطح الكوكب الدّريّ، وكان هبوطهما البطيء بشكل عموديّ، وهما مرتديان مآزر خاصّة، مجهّزة بكلّ الوسائل المؤمّنة لهما الحياة والميسّرة للاطّلاع العلميّ، وشاهدناهما يتحرّكان كما يتحرّك بالون كبير، يعبث به لاعبون صغار، بسبب الضغط الخفيف في الفضاء المغلّف سطح القمر، وبقيا بضع ساعات، تمكّنا من خلالها غرس علم أمريكا فوق أديمه، وأخذا، بآلات خصوصيّة، عيّنات من صخوره، رأينا بعضها فيما بعد في متحف فلكيّ أثريّ "بلوس أنجلس" - كاليفورنيا – في خلال زيارة لنا إلى هذه المدينة الكبيرة؛ وممّا لفت نواظرنا أنّهما أصلحا عطلًا طرأ على مركبتهما، استمرّ إصلاحه مدّة نصف ساعة، وقد أطلق على ذلك المكان القمريّ شاطئ الأمان. وكانت ليلة الهبوط تلك من ليالي تاريخ البشريّة النادرة البارزة، وهي ليلة لا تُنسى مدى العمر، وقد خطب فيها عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل رئيس الجمهوريّة الفنزولانيّة، مطريًا ذلك العمل الجبّار ومادحًا الطيّارين الجريئين، وفي تلك المهلة التاريخيّة سمعنا أخبارًا تذيع أنّ ربّابنة الأسطول السوفياتيّ الراسي في جوار جزيرة كوبا، يراقبون مشاهد الحدث، متعجبّين ومكبّرين، ولكن آسفين على السبق الذي حقّقه ثلاثة أمريكان على طيّاريهم الذين من أشهرهم "غاغارينْ"4 والذين داروا حول القمر دورات عديدة، وعلى بعد 15 كلم عن سطحه.

   وفي 24 تموز آبت "أبّولو 11" لتنزل قرب جزر "هاواي" بالمحيط الهادىء، حيث كان في استقبالها "نكسن" رئيس أمريكا في ذلك الحين، احتفاءً وتكريمًا لطيّاريها الأشاوس، وقد خصّصت لهم سفينة استقبلتهم ليستريحوا فوقها بعد رحلتهم الشاقّة المضنية الأسطوريّة التي دامت ثمانية أيّام، وأدهشت الألباب وقلبت المفاهيم عند بني البشر، إزاء ما تمكّن أهل العلم التقنيّ من تحقيقه، هذا التحقيق البالغ حدّ الأعاجيب التي يرويها أهل الاديان.

                                                                                                                      يوسف س. نويهض

                                                                                                                          أيلول 1983


 - سادر: تائه، غير متشبّث في كلامه.1

- النوتي: الملّاح الذي يدير السفينة في البحر.2

- الحندس: الليل الشديد الظلمة.3

- غاغارين: رائد فضاء سوفياتيّ.4